المنفى عمل شاقّ | معرض رقميّ

 

كتب قيّم المعرض، أيمون كرايل، عن معرض "المنفى عمل شاق"، للفنّان عيسى ديبي:

يعرض ديبي في معرض "المنفى عمل شاقّ"، اثنين من أعماله الأخيرة: "المحاكمة"، وقد عرض بالفعل في بينالي البندقيّة 2013، و"الوطن الأمّ"، وهو عمل مركّب كان يُفترض عرضه في بينالي كاناكالي 2016، وأُلغي بسبب الوضع السياسيّ في تركيّا. ويوفّر لنا تجاور هذين العملين الفنّيّين، فرصة جيّدة لفهم العلاقة بين الخطاب السياسيّ والحياة اليوميّة.

يعيد عيسى ديبي ترتيب العلاقة بين الأمميّة الماركسيّة وتصوّرات الجسد، وبين حميميّة الأسرة المحيطة به. وفي هذا النصّ أستلهم أعمال جاستون باشلار "جماليّات المكان"، وجورج ديدي هوبرمان "موقع المنفى"؛ لأحاور التأمّل الّذي يتطرّق إلى إحدى أهمّ قضايا المشاركة السياسيّة: صعوبة ربط السياق السياسيّ العامّ بالحياة الفرديّة الملموسة للشخص. توضّح أعمال عيسى الفجوة القائمة بين هذين البُعدين؛ محاولًا التوفيق بينهما بالتوازي على مستوى الخيال. وبعيدًا عن التفكير في خبرة الفنّان في المنفى، إلّا أنّ أعماله تستدعي بصورة قويّة: "الجاذبيّة الحسّيّة للثورات".

كانت المحاكمة جزءًا من معرض على هامش بينالي البندقيّة، سُمّي "خلاف لذلك محتلّة". والجزء الرئيسيّ في المحاكمة عبارة عن شريط فيديو، يُظهر اثنين من الممثّلين يقرآن البيان الّذي ألقاه الشاعر داود تركي، عام 1973، لهيئة المحكمة الإسرائيليّة. كان خطاب تركي جزءًا من محاكمة تنظيم "الجبهة الحمراء"، وهو تنظيم ماركسيّ لينينيّ، حاول جمع الناشطين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، للنضال ضدّ الاستغلال الطبقيّ والاستعمار. بُني البيان على الخطاب الشيوعيّ المعتاد في سبعينات القرن العشرين: مدح قادة مثل تشي جيفارا وماو تسي تونج، وأدان الإمبرياليّة الأمريكيّة في فيتنام وأمريكا الجنوبيّة، والأمميّة المرتكزة على تضامن العمّال في العالم أجمع، والنظريّة الثوريّة الّتي تعتمد على مركزيّة تنظيميّة. أمّا في ما يتعلّق بفلسطين، فالنصّ يحوي إدانة للمشروع الصهيونيّ، مع سرد للتاريخ النضاليّ لتركي شخصيًّا، والمشكلات الّتي واجهته في إسرائيل كشيوعيّ عربيّ.

يستوحي معرض عيسى ديبي تقنيّات التغريب، المستخدمة في مسرح برتولد بريخت؛ فتطرَّز كلمة "ثوريّ" على القمصان الحمراء الّتي يرتديها الممثّلون، بينما تقوم امرأة، ترتدي قميصًا أزرق عليه كلمة "شرطة"، بمقاطعتهما بصورة مستمرّة. تعلن المرأة بدء المحكمة الّتي لا نراها، وتتدخّل بصورة مستمرّة من خلال تقديم مزعوم للمياه "للثوّار"، بالاشتراك مع رجل يرتدي الملابس ذاتها. يتجنّب هذا السياق المينيماليستيّ البالغ التصنّع، أيّ صلة حسّيّة مع الخبرات العاديّة؛ ففي لحظات تتداخل أصوات الممثّلين مضيفة إلى الكلمات ارتباكًا، وتكاد تكون مستحيلة الفهم. كذلك تتكرّر بعض الكلمات أو تظلّ غير مكتملة. وتضيف قراءة اثنين من الممثّلين لنصّ البيان ذاته، طيّات من الغرابة إلى العرض.

في العمل المركّب الآخر، الّذي قدّم في المعرض الوطن الأمّ، يتأمّل عيسى ديبي حميميّة العلاقات، من خلال تقديم مرثيّة لأمّه. يعتمد عيسى في هذا البحث على الحكايات؛ فقد طلبت والدته منه - كما يقول بصورة متكرّرة - أن يرسم الزهور؛ ولهذا نجد في الوطن الأمّ صورًا لزهور ولمناظر طبيعيّة من الولايات المتّحدة وسويسرا، ويغيّر عيسى هذه الصور ويشوّهها وفق عدسات نظّارة أمّه. يستحضر هذا التركيب أعمالًا سابقة للفنّان؛ ففي تلّ السمك، على سبيل المثال، طلب إلى صديق أن يصوّر له الطريق إلى شاطئ حيفا، حيث اعتاد التجوّل طفلًا مع أخيه الّذي مات فيما بعد، في أثناء احتجازه لدى الشرطة الإسرائيليّة. يستدعي شريط الصور كلًّا من حضور الموتى وغيابهم، وتتّسم العلاقة بين عيسى وأمّه وأخيه بنبرة مختلفة؛ نتيجة للبُعد وللأماكن الّتي تشاركوا فيها يومًا ما، ومن ثَمّ أصبحت هذه الأماكن، تعبّر عن ارتباطه الحميم بالأشخاص الّذين أحبّهم، وبالخسارة الناجمة عن المنفى في الوقت ذاته.

يفتح عرض كلّ من المحاكمة والوطن الأمّ معًا، المجال للتصوّرات حول جماليّات المنفى، الّتي يبدو معها نهج كتاب "جماليّات المكان" للفيلسوف الفرنسيّ غاستون باشلار مفيدًا بصورة خاصّة؛ فبالنسبة إلى باشلار تهرب الصور الشعريّة لماضي السلسلة السببيّة، أو لمستقبل المشاريع. تؤثّر هذه الصور في الروح في لحظة توقظ الأصداء الحميميّة، الّتي تحوّل الوجود، وتكرّر صدى الوجود من المستمعين للعالم. وتختبر أعمال ديبي شاعريّة الأمميّة الماركسيّة، وقدرتها على إيقاظ الأصداء الحميمة؛ فالمعرض يطرح خطابًا أيديولوجيًّا مدعومًا بالنماذج السببيّة للمادّيّة الجدليّة، وبالمشاريع الثوريّة من ناحية، وبتفاصيل علاقات عيسى بعائلته الصغيرة من الناحية الأخرى.

يجعل نصّان مرافقان لتركيب الوطن الأمّ، من العلاقة بين السياسة والحياة اليوميّة، أمرًا واضحًا بصورة جدليّة. عنوان النصّ الأوّل "رائع أنّك لا زلت حيًّا يا أخي"، يروي فيه ديبي قصّة سفره الأوّل، إلى مكان في الاتّحاد السوفييتيّ يسمّيه "مدينة الأحلام". يستحضر وداعه لأسرته وأصدقائه، ويستحضر رحلته الأولى بالسفينة إلى قبرص، ثمّ استكمالها على متن طائرة أيروفلوت. ويختم عيسى سرده بتذكّر توبيخ مضيفة الطائرة إيّاه، عندما طلب إليها كوبًا آخر من المياه ذات نكهة النعناع، أخبرته بأنّه ليس وحده، وأنّ عليه مشاركة الآخرين. "كان هذا هو درسي الأوّل في الاشتراكيّة العلميّة"؛ آخر جملة نصّ ديبي، وهو درس يتعلّق بالعطش، وهكذا، من خلال هذه القصّة، رسم ديبي جغرافيا ملموسة للأمميّة الماركسيّة.

في النصّ الثاني المعنون "خذني معك"، يتذكّر عيسى تفتيش الشرطة الإسرائيليّة غرفته بسبب نشاطه الشيوعيّ. لم تكن أمّ ديبي طرفًا في الحركة الشيوعيّة، ولكن عندما قرّر الضابط الإسرائيليّ القائم بالتفتيش اعتقال عيسى، قالت له: "اسمع يا خواجا، إذا أخذت ابني معك لأنّه شيوعيّ، فخذني أنا الأخرى لأنّني شيوعيّة كذلك". يُظهر هذان النصّان الذهاب والإياب باستمرار، بين مساحات الحلم للمشاريع الثوريّة وبين الرابطة العاطفيّة مع محيطه الفلسطينيّ.

بالعودة إلى بريخت، وصف الفيلسوف الفرنسيّ جورج ديدي هوبرمان، في نصّ كتبه حول سنوات بريخت خارج ألمانيا، وصف المنفى بأنّه يخلق حالة تتراوح بين وجود مسافة عقليّة وتحليليّة، وبين الانخراط الوجدانيّ بالبلد المهجور. يدعو ديدي هوبرمان علاقة بريخت بألمانيا بأنّها "جدليّة ملموسة"، مستخدمًا شعار بريخت ذاته: أنّ "الحقيقة ملموسة"، بمعنى أنّها "فرديّة، جزئيّة، غير مكتملة، وأنّها تمرّ كالشهب". إنّ استحضار مقولة بريخت عن الحقيقة هنا، يستحضر فوريّة التجربة في الشاعريّة، بحسب باشلار.

يربط ديبي بصورة مركّبة بين كلٍّ من مشروع الأمميّة الماركسيّة، وبين ارتباطاته العاطفيّة بدائرته المحيطة. وفي نهاية المطاف، تصبح المشاركة السياسيّة والحياة اليوميّة متلازمتين؛ فتُتيح الصورة الشعريّة لعيسى ديبي مدخلًا للتصالح بين أحلامه الاشتراكيّة وخبراته الآنيّة. ومع ذلك؛ فإنّ إدراج هذه العلاقة في جماليّات المنفى، يعرض لنا صورة من السرد المتخيّل والتغريب. تنقل الصور - الّتي صُنعت في غيبة الفنّان - إحساسًا بالعجز؛ وهنا تمتدّ أهمّيّتها إلى ما وراء الحالة الفلسطينيّة، وتختبر صدى الخطاب السياسيّ، الّذي كان جزءًا أصيلًا من حركات الاحتجاج اليساريّة، في ستّينات وسبعينات القرن العشرين. كثيرًا ما تبدو هذه الأصداء من الماضي منفصلة عن الخبرة فتبدو سطحيّة، ولكن لم يستطع أيّ خطاب نقديّ أن يمثّل بديلًا لها حتّى الآن، وقد تكون استعادة الخبرات المباشرة الّتي تضمّنتها، هي السبيل الأمثل لإعادة تمثيل هذا الخطاب، وجعله مسموعًا من جديد، من خلال تجربة حسّيّة للثورة، في لحظة يبدو فيها اليسار السياسيّ، أضعف من أيّ وقت سبق في أوروبّا وأمريكا الشماليّة والشرق الأوسط، وحيث يبدو إحساس الوجود في موقع اليسار أشبه بتجربة المنفى من نواحٍ عدّة.

 

تنشر "فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة" بعضًا من أعمال هذا المعرض.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عيسى ديبي

 

فنّان فلسطينيّ مقيم في جنيف بسويسرا، دأبت أعماله الأولى على البحث والتعمّق، في تركيبات وتعقيدات الممارسات اليوميّة، في أراضي 1948، لاحقًا، تطرّقت أعمال ديبي إلى ثيمة الهجرة والاغتراب، الّتي تُوّجت في بحثه الّذي أجراه ضمن رسالة الدكتوراه، عبر طرح تحليل نقديّ للشتات، باعتباره فضاء خلّاقًا. وبالتزامن مع عمله البحثيّ، أنتج ديبي تشكيلة من الأعمال، تناولت بالتمحيص الظاهرة المركّبة الّتي تتمثّل بالهجرة الثقافيّة المعقّدة وواقع الشتات، كما تجسّدت في تجربة فنّان فلسطينيّ مهاجر بالغ في أمريكا، بعد 11 سبتمبر.